من محكمة العشرية إلى محكمة التاريخ: هل ينجو النظام من ميراثه؟

لا يمكن لأيّ مراقبٍ محايدٍ لما سُمّي بـ”محكمة العشرية” التي حاكمت الرئيس السابق ونخبة من رجال الدولة والأعمال، أن يغفل ثقل الملفات الجنائية المطروحة، ذات البعد القانوني الجسيم.
كما لا يمكن تجاهل حقيقتين بارزتين للعيان:
أولًا، البعد السياسي للمحاكمة؛ فهي محاكمة لرئيسٍ سابقٍ حكم البلاد أكثر من عقدٍ من الزمن، ويُحاكم معه بعض الوزراء الأول وأصحاب المناصب الرفيعة في عشريته.
ثانيًا، أن الرئيس السابق هو من دفع بملفه إلى هذا المستوى من المواجهة مع القضاء، والصدام الذي لا يخفيه مع مؤسسة الرئاسة، ومع النظام الذي كان هو قائده ذات يوم.
فجميع المصادر الموثوقة تؤكد أن خياراتٍ متعددة كانت متاحة أمام الرئيس السابق لتجنّب هذا المصير، لكنه رفضها جملة وتفصيلًا، وتعامل معها بذات الروح التحدّية المعهودة، غير أن هذا التحدي كان في غير محلّه. فأغلب رفاقه في السلطة، بمن فيهم الرئيس ولد الغزواني، لم يكونوا يرغبون في أن تسلك الأمور هذا المسار.
وبعيدًا عن الجدل المتوقع بين أنصار الرئيس السابق وخصومه في الإعلام، فإننا، في نخبة موريتانيا، ننظر إلى هذا الملف وتداعياته من زاوية أوسع، تتعلّق بالصراع المزمن بين نخب السلطة، المدنية والعسكرية، وأثر ذلك على الدولة الوطنية، ومستقبل التناوب السلمي على السلطة، وعلى استقرارٍ نحن في أمسّ الحاجة إليه، لإطلاق تنمية حقيقية لا يُعكّر صفوها إرث الثارات السياسية بين نخبٍ حكمت البلاد، وتكوّنت حولها أجنحة منذ الستينيات، تسعى، بصورة أو بأخرى، إلى استدامة هذا الصراع، بعدما أنشأت عبره هرمًا من المصالح الضيقة، سينهار بمجرد قيام دولة المؤسسات والقانون، دولة المواطنة التي لا مفرّ منها، مهما حاولت أجنحة الفساد المتحكمة في صناعة القرار تأجيلها.
إنّ جميع رؤساء موريتانيا السابقين، من حيث لا يدرون، كانوا سببًا في تعثر تجاربهم السياسية، بما اتخذوه من سياسات داخلية وخارجية، بُنيت في كثير من الأحيان على تقديرات غير موفقة، سواء في اختيار الطواقم القيادية في الحزب والحكومة، أو في إدارة لعبة التوازنات الداخلية والخارجية.
وقد أسهمت تلك الاجتهادات في خلق قوى ماكرة سياسيًا، تدير اللعبة لحماية مصالحها بأي ثمن، ولو تطلب ذلك الانقلاب السياسي على رئيس الجمهورية، وتتخذ من الحزب الحاكم في كل حقبة وكرًا للدبابير، تمكر بالجميع.
إنه دور سلبي وتسلسل خطير تحرص الأحزاب الحاكمة على استمراره، لكنه بطبيعته غير قابل للاستدامة؛ فتراكم الفساد يُفضي إلى تصدعات عمودية وأفقية داخل الكتل السياسية التي يُعوَّل عليها في تعويم النظام.
وموريتانيا اليوم بأمسّ الحاجة إلى كسر هذا الدور والتسلسل من الثارات السياسية والصراع على السلطة والثروة، لأن تراكمه خلق حاجزًا منيعًا بيننا وبين بناء دولة المواطنة والحكامة الرشيدة، التي تمثّل الهدف الأسمى للدولة الوطنية، وهو ما يكشف فشل النخب الموريتانية في الخروج من نفق المغالبة الضيقة.
سيظلّ التناوب السلمي على السلطة مستحيلًا، ما لم يتم تفكيك هذا الإرث، ومهما بُذل من جهدٍ تكتيكي لإخراج الاستحقاقات السياسية الكبرى ببهرجة ديمقراطية زائفة.
نحن اليوم أمام مفترق حساس: فإما أن نعبر منه إلى ثقافة الدولة الوطنية المؤسسية القوية، وإما أن نغرق أكثر في مستنقع الفساد السياسي، الذي يقود الدول إلى الفشل، والأنظمة إلى التفكك والهشاشة، ولو بدت في ظاهرها قوية.
الموريتانيون مع مساءلة جميع المفسدين، لا مساءلة بعضهم، ومنح الحصانة للبعض الآخر.
والرأي العام لا يُخفي تذمره من عدالة انتقائية، أو عوراء لا ترى إلا من في خصومة مع النظام، وتمنح الحصانة لكل من يحتمي بشعار الولاء، ولو كان ولاؤه زائفًا.
الرأي العام يتحدث عن حالات بالعشرات يستغل فيها نافذون مناصبهم ومكانتهم في صناعة مصالح خاصة، وحمايتها بالاستحواذ على جزء كبير من سوق الأشغال العامة، وعلى عقود امتياز من الباطن مع شركات أجنبية مهمة تنشط بموريتانيا.
ويتحدث عن فساد عميق في الإدارة يقف حجر عثرة في وجه تنفيذ كل المشاريع الوطنية الكبرى!
إنّ الأخطار المحدقة بموريتانيا جسيمة ومتفاقمة، ولم يعد مقبولًا أن تنشغل النخب الحاكمة والرديفة عن الأولويات الكبرى بقضايا جزئية، قد تكون هي السبب في غرق الوطن في لجة الضياع، لا قدّر الله.
إنّ الحوار الوطني الذي يُثار الحديث عنه، يمكن أن يشكّل مدخلًا لتأسيس مرحلة وطنية جديدة، تُغلق الباب أمام داءَين يُهدّدان حاضر موريتانيا ومستقبلها:
داء الفساد الشامل، وداء صراع أقطابه على الاستحواذ على صناعة القرار الوطني لا لخدمة الوطن وأهله، وإنما لصناعة مصالح المفسدين الخاصة!
فلتكن الحرب على الفساد شاملة ورادعة، وإلا فلا معنى لكل هذه الجعجعة عنها.
بقلم: رئيس مركز دعم صناعة القرار الوطني
الخبير الاستراتيجي عبد الله ولد بونا
15 مايو 2025