السياحة الداخلية ذاكرة تعود من عمق الرمال:

 

 

لم يكن الحديث عن السياحة الداخلية في موريتانيا في العقود الماضية سوى صدى خافت، يضيع بين ضجيج السفر إلى الخارج ومغريات العواصم البعيدة. فقد استنزفت خيرات البلاد في بناء قصور بعيدة، وشراء منازل في مدن أوروبية ومغاربية، بينما تُركت الأرض التي أنجبتنا عطشى تنتظر أن نتذكرها. ولعل أكبر خسارة لم تكن في المال وحده، بل في انقطاع ذاكرة المجتمع عن محيطه الطبيعي والثقافي، حتى بات كثيرون لا يعرفون عن وطنهم إلا ما يشاهدونه من صور عابرة.

لكن التحول الذي عرفته البلاد في السنوات الأخيرة، مع التوجيهات الواضحة لفخامة الرئيس محمد الشيخ الغزواني، أعاد للبوصلة توازنها. فصار الانتباه إلى السياحة الداخلية أمرا ملحا، لا لكونه موردا اقتصاديا فحسب، بل لأنه استعادة لوشائج الروح مع الأرض.

فمن يقف على واحات كرو، مثلا -حيث النخيل يعانق الأفق- يدرك أن الطبيعة هناك تحمل صفاء خاصا؛ صفاء يجعل الزائر كأنه أمام كتاب مفتوح من تاريخ الصحراء. كما أن الواقف على روضة جوك،؛الواحة التي تتدثر بالخضرة في حضن الجبال، يحس  أنه في فسحة أبدية بين الماء والنخيل، حيث لا ينقطع حفيف السعف عن ترديد أنغامه على هزيج نسائم الوادي المعتقة بأريج الورد القابع على حافات البطحاء يعانق الآكام ويحاكي خرير الماء بحيث من هناك تتراءى لك سن تگانت؛  قطعة الجغرافيا التي صاغتها يد الخلود جبالا وسهولا وأودية لتكون قبلة للباحثين عن الجمال الساحر.

فكان من بين مناظرها الخلابة واد أعگد ظهرو، الذي يقدر طوله بخمسة عشر كيلومترا، والذي كان في ثمانينات القرن الماضي مرتعا لعشرات السواح الغربيين. يأتونه من بعيد يستمتعون بطبيعته أياما وليالي يمرحون ويسرحون على ضفافه، يتسلقون صخوره ويعانقون أشجاره ويداعبون طيوره.

يوثقون تلك اللحظات بالصور التذكارية ويكتبون عن سحر طبيعته في دفاتر أيامهم.

إن السياحة في هذه الربوع ليست مجرد رحلة ترفيهية فحسب بل هي استكشاف لكنوز خبأتها طبيعة الأرض يسعي السواح الغربيون للبحث عنها  وسرقتها، يجمعونها ويحملوا منها  ما خف وزنه وغلا ثمنه.

إن السياحة الداخلية ينبغي أن تتحول إلى ثقافة عامة، لا مجرد مشروع اقتصادي. فهي التي ترسخ في الأجيال حب الأوطان و الارتباط بأهلها، كما تمنح المجتمع فسحة ليقرأ ذاته من جديد. وما أجمل أن يكون هذا الجمال الطبيعي موردا للسعادة الروحية وصفاء  النفوس، قبل أن يكون موردا ماليا يدر دخلا.

إن الزائر  حين يجلس تحت ظل نخلة أو يسير بين جداول الماء ، أو يسامر  سكون الطبيعة  لا شك تستيقظ داخله الأحاسيس وتغمره الغبطة ويتملكه الاعتزاز بأن هذا الجمال ملكه وأن الأرض وطنه وأهلها أهله.

لقد آن الأوان أن نعيد اكتشاف كنوزنا، وأن نرى في واحاتنا وودياننا وفضاءاتنا المفتوحة ليس فقط وجهة سياحية، بل ذاكرة وطنية، تستحق أن تورث للأجيال كما يورث الشعر والتاريخ.

فالوطن الذي نبحث عنه في المدن البعيدة، يسكن  في أعذاق نخيلنا، يترقرق  داخل جداول أنهارنا، يجلس على قمم جبالنا من كدية الجل ولعصابه إلى آدرار  وتگانت، ويتدفق عبر أوديتنا من واد الذهب وفم لگليته  وواد أعگد ظهرو الذي لا يزال ينتظر أن يعود إليه أهله، قبل أن يستحوذ عليه  غرباء آخرون.

سيدي محمد دباد

مدينة بلباو اسبانيا21/08/2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *